جرائم الاتجار بالبشر.. تراجع الأرقام في العراق والأسباب لا تزال قائمة
جرائم الاتجار بالبشر.. تراجع الأرقام في العراق والأسباب لا تزال قائمة
رغم تسجيل انخفاض ملحوظ في معدلات جرائم الاتجار بالبشر داخل العراق خلال النصف الأول من عام 2025، فإن جذور الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تغذي هذه الظاهرة لا تزال راسخة بعمق في المجتمع العراقي، ما يجعل هذا التراجع الهش أقرب إلى هدنة مؤقتة بدلًا من كونه انتصارًا حاسمًا على واحدة من أخطر الجرائم المنظمة التي تنهش الفئات الأكثر هشاشة في البلاد.
وكشف رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان، علي العبادي، أن معدلات جرائم الاتجار بالبشر انخفضت بنحو 25% خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري مقارنة بالفترات السابقة، ووصف العبادي هذا الانخفاض بأنه خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح، لكنه حذر في الوقت ذاته من قراءة مفرطة في التفاؤل، مؤكدًا أن هذا لا يعني نهاية الظاهرة في العراق.
وتتعدد جرائم الاتجار بالبشر في العراق بين التسول المنظم، واستغلال النساء والفتيات في أعمال الدعارة القسرية، والمتاجرة غير القانونية بالأعضاء البشرية، وأبرزها تجارة الكلى، ومع كل انخفاض طفيف في الإحصاءات، تبقى هذه الجرائم قائمة في الخفاء، محمولةً على أكتاف الفقر المدقع، والبطالة المرتفعة، والفساد الإداري، وضعف سيادة القانون في بعض المناطق.
جذور ممتدة في التاريخ القريب
ظاهرة الاتجار بالبشر في العراق ليست وليدة اليوم؛ فقد تضاعفت بشكل لافت بعد عام 2003 مع انهيار مؤسسات الدولة وتفشي الفوضى الأمنية، ومع اجتياح تنظيم داعش لمناطق واسعة بين 2014 و2017، اتخذت الظاهرة أبعادًا مأساوية جديدة، حيث تحولت النساء والأطفال في المناطق الخاضعة للتنظيم إلى غنائم حرب، وتعرض كثير منهم للبيع أو الاستغلال الجنسي القسري.
رغم تحرير المدن العراقية من التنظيم، ظلت شبكات الجريمة المنظمة نشطة، تستغل ثغرات القانون وضعف الحماية المجتمعية.
يرى المختصون أن استمرار الأسباب الاقتصادية والاجتماعية يكرّس بيئة ملائمة لانتشار شبكات الجريمة المنظمة، التي باتت تعتمد أساليب حديثة ومتطورة في استغلال الفئات الهشة. وكما أوضح رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان، فإن الفقر، والبطالة، وسوء الوضع الاقتصادي هي عوامل رئيسية تغذّي هذه الجرائم.
في السنوات الأخيرة، لجأت هذه الشبكات بشكل متزايد إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لاستدراج الضحايا، وخاصة الشباب والفتيات الباحثين عن فرص عمل أو الهروب من واقعهم الصعب، حيث تُنشر إعلانات وهمية لوظائف مغرية أو فرص دراسية في الخارج، ليقع الضحايا في فخ هذه العصابات التي تستغلهم لاحقًا في التسول المنظم، أو الدعارة، أو حتى تجارة الأعضاء البشرية، التي تُعد من أكثر أشكال الاتجار بالبشر وحشية وربحًا.
انخفاض الأرقام لا يلغي التحديات
التقارير الأممية والدولية لا تزال تصنف العراق ضمن الدول التي تواجه تحديات جدية في ملف الاتجار بالبشر، وأبقى تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الاتجار بالبشر لعام 2024 العراق في المستوى الثاني "قائمة المراقبة"، لافتًا إلى وجود جهود حكومية محدودة لا ترتقي إلى مستوى التحدي.
ويشير تقرير صادر عن المنظمة الدولية للهجرة إلى أن العراق شهد في 2024 أكثر من 350 حالة موثقة للاتجار بالبشر، معظمها ارتبط بتسول الأطفال واستغلال النساء في الدعارة القسرية، وتبقى الأرقام الحقيقية مرشحة للارتفاع، بسبب حالات غير مبلغ عنها نتيجة خوف الضحايا أو وصمة العار الاجتماعية.
مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) يشدد على أن النزاعات المسلحة والاضطرابات الأمنية تُفاقم من هشاشة السكان وتزيد من تعرضهم للاستغلال، كما يشير إلى أن ضعف المؤسسات في بعض المناطق، ووجود جيوب للإفلات من العقاب، يُسهم في استمرارية هذه الجرائم.
تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية (مثل منظمة حمورابي لحقوق الإنسان ومراكز أخرى) تُجمع على أن ضعف التنمية وسوء التوزيع العادل للثروات، إلى جانب الفساد، من أبرز العوامل التي تغذّي ظواهر مثل التسول المنظم والاتجار بالبشر، هذه التقارير تدعو إلى مقاربة شاملة تتجاوز البعد الأمني نحو المعالجة الاقتصادية والاجتماعية.
نماذج من الواقع
في أحد مراكز إيواء النساء الناجيات ببغداد، التقت فرق حقوقية شابة في مقتبل العشرينات رُحّلت قبل أشهر من دولة مجاورة، حيث جرى استغلالها في شبكات الدعارة تحت تهديد العنف، تقول الفتاة بصوت واهن: “هربت من الفقر فوجدت نفسي سجينة في غرفة مغلقة”.
هذه القصص الفردية تكشف بوضوح أن انخفاض الأرقام لا يعني زوال الأزمة، فطالما بقي الفقر المدقع وسوء توزيع الثروات دون معالجة، ستظل شبكات الاتجار قادرة على تجنيد ضحايا جدد كل يوم.
خبراء الجريمة المنظمة يؤكدون أن شبكات الاتجار بالبشر في العراق لم تعد تعتمد فقط على الطرق التقليدية؛ بل طورت أساليب حديثة لاستدراج الفئات الهشة، خاصةً النساء والفتيات، عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت ستار عروض العمل الوهمية أو الزواج، هذه الأساليب الرقمية المعقدة تصعّب مهمة الجهات الأمنية، وتستدعي تحديثًا دائمًا للقوانين وآليات الرقابة.
مقاربة أمنية لا تكفي وحدها
يشدد العبادي على أن مكافحة هذه الظواهر لا تتحقق بالقوانين وحدها، بل تحتاج إلى حلول تنموية واقعية، وهو ما تؤكده أيضًا تقارير صادرة عن منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والمنظمة الدولية للهجرة، التي توصي بحلول متكاملة تبدأ من توفير فرص العمل وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية، وتصل إلى تنظيم حملات توعية واسعة لردع المجتمع من المشاركة أو التساهل مع هذه الجرائم.
ويشير تقرير صادر عن الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 25% من العائلات العراقية تعيش تحت خط الفقر، فيما تصل نسبة البطالة بين الشباب إلى نحو 35%، هذه النسب تشكّل بيئة خصبة لتغلغل الجريمة المنظمة واستغلال اليائسين.
ورغم التحديات، بذلت الحكومة العراقية جهودًا لافتة خلال السنوات الأخيرة، من بينها تشكيل لجان خاصة لمكافحة الاتجار بالبشر، وتدريب كوادر الأمن والقضاء، وتحديث بعض القوانين ذات الصلة، وأسهم التعاون مع منظمات المجتمع المدني في إنقاذ العشرات من الضحايا وتقديم المساعدة النفسية والقانونية لهم.
لكن ما زال الطريق طويلًا، خصوصًا في المناطق المحررة من داعش، حيث النزوح والتفكك الاجتماعي يجعل الفئات الأضعف أكثر عرضة للاستغلال.
نظرة مستقبلية.. ما المطلوب؟
حتى يكون التراجع في معدلات الجريمة تحوّلًا دائمًا وليس طارئًا، يرى خبراء أن العراق يحتاج إلى خطة وطنية شاملة تشمل:
معالجة جذرية للفقر عبر مشاريع تنمية حقيقية، وتعزيز حماية الفئات الأكثر هشاشة: النساء والأطفال والنازحين، وتطوير أنظمة رقابة إلكترونية لملاحقة شبكات الاستدراج عبر الإنترنت، واستمرار الحملات التوعوية وتغيير الثقافة المجتمعية التي قد تتسامح أحيانًا مع بعض أشكال الاستغلال، إضافة إلى تعاون دولي أوسع لتفكيك الشبكات العابرة للحدود.
يُعد انخفاض معدلات جرائم الاتجار بالبشر في العراق خلال النصف الأول من 2025 مؤشرًا إيجابيًا ومبعث أمل، لكنه يظل مؤقتًا ما لم تُعالج الأسباب البنيوية للظاهرة. فالمعركة الحقيقية ليست فقط ضد العصابات التي تستغل الضعفاء، بل ضد الفقر والتهميش والظروف التي تدفع الضحايا بأنفسهم إلى أبواب الجناة.
في نهاية المطاف، تظل هذه القضية امتحانًا لإنسانية المجتمع العراقي وقدرته على حماية أضعف أبنائه من سماسرة الألم.. فالظاهرة بدأت تتراجع بالأرقام، لكن المعركة الأعمق ضد جذورها الاجتماعية والاقتصادية لا تزال مستمرة ولا تحتمل الانتظار.